الصابون الحلبي ما بين الأمس واليوم

منحها موقعها الجغرافي مكانة جيوسياسية فريدة من نوعها، وميّزها تاريخ الموغل في القدم والمقدر بنحو (12) ألف عام، بعداً استرتيجياً هاماً، كيف لا وهي أبرز محطات طريق الحرير ومهد الحضارات القديمة، لذا ليس مستغرباً أن تجد هذا الغنى الثقافي والتراثي وحتى الصناعي والزراعي في دولة تحتل قلب العالم كسورية.


من دمشق الفيحاء مروراً بالمنطقة الوسطى والساحل فالبادية وصولاً إلى الشمال حيث عاصمتها الاقتصادية حلب الشهباء والتي تعاقب على حكمها الحيثيين والآشوريون والمماليك والمغول والعثمانيين، وهي الجوهرة المتلألئة على طريق الحرير القديم إذ كانت مركزاً تجارياً ومحطة هامة للقوافل التي تتوسط المسافة بين الفرات والبحر المتوسط وعند ذكرنا لهذه المدينة يتبادر إلى أذهاننا صابون الغار، الذي تملأ رائحته الفواحة المكان، وهو الذي ارتبط اسمه مع اسمها، فهو ليس مجرد قطعة صابونية، بل هو رمز ثقافي وشاهد على تاريخ ومجد حلب.

تاريخ عريق:

يقول المؤرخون إن “صناعة الغار” قد تم توارثها من جيل الى جيل منذ ١٠٠٠عام، وهناك الكثير من العائلات الحلبية التي اشتهرت بصناعته وبات سمها يشكل رمزاً معروفاً في المدينة والمنطقة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، (زنابيلي والجبيلي والقداح …. الخ)، إذ تعتبر مصبنتي زنابيلي والجبيلي من أقدم المصابن الموجودة في حلب ويرجع تاريخهما إلى منتصف القرن الثامن عشر.

أصل التسمية:

ويعود أصل تسمية صابون الغار بهذا الاسم إلى شجرة الغار دائمة الخضرة المعروفة بفوائدها الكثيرة وأهميتها.

عوامل ساهمت في تطوير صناعة الغار:

شكل مناخ حلب عاملاً مهماً لصناعة صابون الغار الذي يتميز عن صابون العالم بأنه مصنوع من زيت الزيتون الخالص ولايدخل في تركيبه أي من المواد الكيميائية بخلاف الصابون الأوروبي والآسيوي.

ويقول صنّاع صابون الغار إنهم يطلقون أسماء عدة على الصابون حسب نوع الزيت المستخدم في صناعته، وطبعاً كله زيت زيتون خالص إلا أن لكل نوع منه خاصيته المميزة وفق المنطقة التي يزرع فيها، في وقت نجد أن مكونات الصابون كلها من مواد طبيعية ومن مدن سورية حصراً، ولعل أهم مكوناته هي :

– زيت المطراف الناتج عن زيت الزيتون والذي ينتج من مناطق غرب حلب وشمالها ويشكل مابين (60-98)% من مكونات الصابون.

– زيت الغار وهو عبارة عن زيت عطري يعطي رائحة مميزة ولون أخضر ويشكل مابين (2-40)% من مكونات الصابون ومصدره غابات الجبال الساحية.

– ماءات الصوديوم

شهرة عالمية:

كل ذلك، جعل صابون الغار يحظى بمكانة محلية وعربية وحتى عالمية، نظراً لاحتواءه على مكونات طبيعية خالصة، فزيت الزيتون يحتوي على عدد من الفيتامينات والمعادن خاصة فيتامين E ما يمنح الشعر والبشرة رونقاً خاصاً، وهو أمر يؤكده اختصاصيون، كون صابون الغار يترك آثاراً ممتازة قد لايملكها أي صابون آخر، أهمها:

  • تكثيف الشعر حيث يساعد على تقوية بصيلات الشعر الضعيفة
  • علاج الأمراض الجلدية التي تصيب فروة الرأس ومنها الثعلبة
  • ترطيب وتفتيح البشرة لأنه يحتوي على مواد مضادة للأكسدة
  • ترطيب الشعر وتغذيته ليصبح ناعم الملمس ولامعاً بالإضافة لمقاومة الشيب
  • التخفيف من أعراض الأكزيما
  • علاج “حب الشباب والبثور السوداء” إذ يعمل على تنظيف البشرة بعمق

ورغم تلك الفوائد، إلا أخصائيين يعتبرون أن له أثراً على الشعر الدهني كونه يساعد على زيادة الافرازات الدهنية في فروة الرأس كما أن الإفراط في استخدامه يسبب قشرة الشعر، في وقت يعرض البشرة الحساسة إلى التهيج.

شكل طبيعي مميز:

صابون الغار ليس بذلك المظهر الجذاب بل هو عادي المظهر ولكن الذي يميزه رائحته ولونه الذان يأخذاننا في جولة عبر التاريخ إلى الحارات والأزقة والحمامات القديمة وعبق التاريخ الفواح.

يتميز عن غيره من الصابون بوجود طبقة خارجية لونها أصفر أما لونه الداخلي فهو أخضر فاقع وإن دل على شيء، فهو يدل على حداثة صنعه ومهما أصبح قديماً يبقى محافظاً على رائحته المميزة والمنعشة لذلك نجد أن معظم الناس تقوم بتخزينه في أدراج الخزائن كي تمتزج ملابسهم برائحته الفواحة.

تتم صناعة صابون الغار خلال فصل الشتاء من شهر تشرين الثاني وحتى نيسان ويحتاج من (6-9) شهور حتى يجف وتلخص صناعته كما يلي:

يتم تذويب ماءات الصوديوم في وعاء كبير وتمدد بالماء لتفقد خاصيتها الحارقة ثم يضاف إليها زيت المطراف على مراحل، بعدها يتم تشغيل النار تحت الوعاء وترفع درجة الحرارة حتى تصل إلى (200) درجة مئوية مع التحريك والتقليب المستمر، أما يدوياً أو عن طريق محرك هيدروليكي داخل الوعاء لنصل إلى مرحلة التصبن.

(التصبن: هو تفاعل كيميائي تتفاعل فيه الدهون الثلاثية “الزيوت” مع ماءات الصوديوم أو البوتاسيوم فينتج الغليسيرين وملح الأحماض الدهنية ويسمى الصابون).

ثم يضاف زيت الغار الطبيعي الى المزيج الساخن قبل الانتهاء من مرحلة الغلي ثم يضخ الصابون السائل اللزج ويفرش على أرضية مستوية ويعزل عن الأرض باستخدام نايلون ليحفظ من الشوائب. بعد ذلك، يترك حتى يجف وعندما تصبح الألواح صلبة وقاسية تبدأ عملية تقطيع الألواح إلى قطع على شكل مكعبات ذات أحجام    متساوية بعدها، يختم بعلامة المصنع الذي قام بتصنيعه، ثم يوزع المنتج مع مراعاة إبقاء فتحات بين القطع من أجل عملية التهوية.

ويبقى الصابون حتى فصل الصيف، وبعد أن يجف بشكل تام تتم عملية تعبئته ونقله إلى الأسواق للبيع.

يمكن التمييز يبن صابون الغار الأصلي والمقلد من خلال النقاط التالية:

معوقات ومخاوف على هذه الصناعة:

لعل أبرز ما يثير القلق على هذه الصناعة هو الحظر الاقتصادي، إضافة إلى هجرة اليد العاملة وغياب أجيال يقع على عاتقها تعلم هذه الصناعة ونقلها إلى أجيال أخرى كي تبقى هذه الصناعة مستمرة.

ويقول حرفيون إن صناعة الصابون تراجعت نتيجة الأزمة التي تعيشها سورية منذ أكثر من عقد من الزمان، نتيجة انخفاض منافذ التصدير وزيادة كلفة الإنتاج ومنافسة المصانع التي غادرت البلاد وأعيد إنشاؤها في دول أخرى.

كما ساهمت الأوضاع الداخلية الصعبة التي تعيشها البلاد ومن أبرزها انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة والكلفة المرتفعة لما يسمى “الأمبيرات” وهي مولدات خاصة وارتفاع أسعار المحروقات الجنوني بمضاعفة أسعار هذه المادة إنتاجياً ما انعكس سلباً على المواطن.

وخلال السنوات القليلة الماضية، وبعد استقرار الأوضاع في مدينة حلب، عادت بعض تلك العائلات لممارسة نشاطها في صناعة الصابون الذي يعتبر رمزاً وموروثاً تاريخياً يميز مدينة حلب العاصمة الصناعية لسورية.


بقلم: م. آية طحان