لم يشفع للصناعة التقليدية الموريتانية ما قدمته من إسهامات في الماضي، لكسب مناعة ضد ما تعانيه من إهمال وتجاهل في الحاضر.
تقاوم ثلة قليلة من رواد هذا النشاط، ظروفا وتحديات متعددة يتصدرها كساد الأنشطة بسبب ضعف الإقبال، زاد منها إغلاق البلد أمام السياح بسبب أزمة كورونا، ما أفقد تلك الصناعات أهم مستورد لها.
أهمية الصناعة التقليدية بالنسبة لموريتانيا لا تقتصر فقط على مردودها المادي كأنشطة تجارية إنتاجية، بل تتعدى ذلك إلى إسهاماتها الثقافية كتراث عريق للبلد.
صدفي ولد أجميلي، سبعيني أخذت مهن الصناعة التقليدية زهرة شبابه ولا يزال يعض عليها بالنواجذ، كنوع من الحنين “لزمنها الجميل” وفق تعبيره.
يتوسط “صدفي ولد أجميلي” ورشة صغيرة، بمنطقة “المعرض” في نواكشوط، كل يوم، وتتناثر حوله بفوضوية مقتنيات صنعتها انامله بإبداع ومهارة، لكنها، تتكدس بسبب جمود النشاط والمنافسة غير المكافئة مع المنتج المستورد.
لا يتحسّر “ولد أجميلي” على واقع الكساد الذي يرى أنه مرتبط بالظروف الاقتصادية التي بإمكانها أن تتغير نحو الأحسن، لكن الأسى والمرارة، بالنسبة له هي في هجر تلك الحرفة من طرف الأجيال الصاعدة مما ينذر في رأيه بموت هذه الصناعة مع نهاية جيلها الذهبي، وفق رأيه.
ومن جانبها عبرت “عيشة بنت أحمد أعل” ناشطة، ستينية، في حديثها عن مجال الصناعة التقليدية عن واقع النسيان الذي تعاني منه الورش المتخصصة في المجال، بحسب تعبيرها.
وقارنت الصانعة التقليدية عيشة، بين مرحلة شهدت فيها مقتيناتها من تلك الصناعة ازدهارا ملحوظا، وحركية في إقبال السياح والزوار، وواقع جديد تمر به الآن يسوده الكساد والإهمال وهجرته من طرف الرواد حسب تعبيرها.
وأكدت بنت أحمد أعلي أن منتجات الصناعة التقليدية تواجه كذلك الكساد بسبب ضعف وسائل التسويق والعرض التي تمكن من جذب الزوار والسياح والزبائن، بالإضافة إلى انعدام وسائل التحفيز كالمشاركة في المعارض وحتى تهالك وتآكل المعدات التي تستخدم في تصنيع منتجات الصناعة التقليدية.
حاضنة للتراث
لا تقتصر إسهامات الصناعة التقليدية الموريتانية، على ما لعبته تاريخيا من أدوار في سد حاجيات المستهلك من أدوات ومعدات كان يحتاجها في حياته اليومية، بل أصبحت منتجات هذه الصناعة اليوم، كذلك، محفظة لتراث جميل من الإبداع المتسلسل عبر العصور، وميدان لإنتاج تحف فنية، ومعدات لا يزال يكثر عليها الطلب.
ووفرت هذه الصناعات تاريخيا للإنسان الموريتاني ما يلبسه وما يفترشه وما يستخدمه من آلات وأدوات زراعة وحياكة وخياطة ونسيج وما يحتاج إليه من أوان وأثاث منزلي وكل ذلك كان يصنع محليا.
فكان عبق الأصالة المنبعث من تلك المنتجات، الملهم لاستمرار نسق الإبداع في عنفوان العطاء المسطّر بأنامل حرفيين ترسم وتطرز بأدوات الماضي، للحاضر والمستقبل، في تواصل لصيرورة الزمن الجميل الذي تعبر عنه هذه الصناعة.
ويعكس رهان موريتانيا على صناعتها التقليدية، كجزء أصيل وتراثها، إنشاء قطاع وزاري باسم هذه يجمع هذه الصناعة مع الثقافة باعتبار الأولى جزءا لا يتجزأ من الثانية، إلى جانب العديد من الخطوات الأخرى الرامية إلى تنمية هذه الصناعة كرافد من روافد التنمية المحلية.
منتجات عديدة ومتنوعة تزخر بها معارض ومتاجر الصناعة التقليدية في موريتانيا، ويتزايد عليها الطلب في المناسبات والمهرجانات الثقافية أوجدت لهذه الصناعة مجالا لاستقطاب الاهتمام، وانتعاش الانشطة.
دخلت الصناعات التقليدية أيضا دائرة المنافسة مع منتجات المصانع الحديثة المتعلقة بأدوات البيت الموريتاني، من خلال صناعة بعض المعدات واللوحات التي يكثر عليها الطلب، لميزة الأصالة التنافسية التي تختص بها الصناعات التقليدية اليدوية عموما، والتي تعتبر محل تفضيل لدى المستهلكين.
تنوع وثراء
مجالات إنتاج الصناعات التقليدية الموريتانية، متعددة ومتنوعة لتشمل تصنيع الغذاء والدواء والغزل والنسيج والملابس والسجاد والحصير والفخار، وكذلك الصناعات التي تتعلق ببناء المساكن وإقامة السدود وحفر الآبار.
وكان للنساء دورهن البارز في هذا المجال من خلال التخصص بصناعة الجلود لإنتاج أفرشه وأغطية بزركشتها الجميلة وزخرفتها الساحرة للأعين.
أما الرجال فيزاولون صناعة كل الأدوات الحادة المستخدمة بشكل يومي في المطبخ وغيرها من معدات الشاي الخاصة، إلى جانب وصياغة الحلي من الفضة والذهب الأبنوس كالقلائد، والأساور، بالإضافة إلى صناديق التخزين والزينة من أنواع أخرى من الخشب النادر.
خارطة رسمية للتطوير
داخل منطقة “المعرض” بنواكشوط، تتواجد العديد من الورش والمحلات التي يعتمد أصحابها على حرف الصناعة التقليدية كنشاط مدر للدخل، وممارسة مهن تمثل أيضا اهتماما بصيانة الموروث الثقافي لموريتانيا والمحافظة عليه.
الحكومة الموريتانية تسعى ضمن مقاربتها الجديدة لتنمية القطاع وانتشال هذه الصناعات من واقعها لاعتماد ما تسميها خارطة طريق هدفها دعم هذه الحرف المنتجة للقيمة المضافة، والتي تساهم في توفير فرص الشغل ودعم السياحة.
خطوات الحكومة في هذا المجال تشمل إنشاء قرية للصناعة التقليدية وتوفير قروض ميسرة للعاملين في المجال، وإعادة تنظيم هيئاته المهنية والحرفية، والاهتمام بالتكوين ونقل الخبرات بين الأجيال.
إعادة الاعتبار للصناعة التقليدية وإحياء مهنها المختلفة تستوجب وفق المعنيين كذلك دمج الشباب واكتساب الخبرات التي يتمتع بها الشيوخ من خلال برنامج لنقل الخبرات. من شأنه أن ينهي عزوف الأجيال الصاعدة عن الصناعة التقليدية بسبب ضعف مردوديتها المادية.
كما تتطلب تنمية القطاع كذلك ضرورة دعم دخول هذه الصناعة التقليدية إلى الأسواق وإلى حيث يكثر عليها الطلب حتى تتجاوز حالة الركود المسجلة.
صحافة.
إعداد الصحفية : أمل معروف